"سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم".
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الشيخ ناجي بن نصر
الفهرس
مقـدمـة
الإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
الحكمة من إرسال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
مكانته صلى الله تعالى عليه وسلم
حقيقته صلى الله عليه وسلم
ولايتـه ورسالتـه
مقامه بين الأنبياء
أحد مقاماته الخاصة
سبب اجتبائه عليه السلام لهذا المقام
فضل الولاية على الرسالة
أقسام الولاية
عبوديته صلى الله عليه وسلم
صيغة الشهادة بمحمد(صلى الله عليه وسلم)
بقاؤه حيا إلى يوم القيامة
فضل الصلاة عليه
الله والملائكة والمؤمنون
صلوات وتسليم
مقـدمـة
وبعد ، فهذه هي الحلقة الثانية من سلسلة ( اعرف ربك ) ، وهي في شرح معنى ( محمد رسول الله ) صاحب الفضيلة والوسيلة.
وأية وسيلة أفضل وأقرب إلى معرفة الله ممن أرسله بشرعه مبلغا وأيده بالمؤمنين متبوعا، فمن أراد أن يعرف حقيقة ( لا إله إلا الله ) فعليه أن " يتوسل "(*) إلى ذلك ( بمحمد رسول الله ) وإلا كان من المغضوب عليهم ( كاليهود ) أو من الضالين ( كالنصارى )، لأن طاعة الله مرتبطة بطاعة رسوله لقوله تعالى ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (النساء:80) فمن لم يطع الرسول فقد عصى الله، وكيف يمكن للعاصي أن يعرف ربه؟ إذْ لو عرفه ما كان عاصيا. وفي الحديث القدسي ( وعزتي وجلالي لو سلكوا إليّ كل طريق واستفتحوا على كل باب، ما فتحت لهم حتى يأتوني خلفك يا محمد ) أو كما قال(**).
(*) لا يفهم من معنى التوسل هنا إشراك الرسول صلى الله عليه وسلم في الألوهية كما هو الحال عند النصارى، وإنما التوسل في الإسلام يعني اتخاذ محمد صلى الله عليه وسلم وسيلة لمعرفة الله تعالى، وكل الوسائل الأخرى جدل وفلسفة وضلال، فمن شاء أن يعرف الله حق معرفته عليه أن يعرف أولا رسول الله الذي اصطفاه الله لتبليغ رسالته إلى الناس كافة ثم يتدبر بعد ذلك آيات الله في الكون.
(**) ( إضافة مهمة لما ذكره المؤلف) روى أبو نعيم في حلية الأولياء(10/257) ومن طريقه الخطيب في الفقيه والمتفقه(1/389)، ورواه السلمي في طبقات الصوفية(ص/132)، وابن الجوزي في تلبيس إبليس(ص/19) من طريق جعفر بن محمد الخلدي قال: سمعت الجنيد يقول: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه.
وقد أورده العلامة ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام(ص/311) على أنه حديث قدسي حيث قال رحمه الله: (وقال الجنيد رحمه الله: يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك.
ولقد اجتهدنا مستلهمين آيات الكتاب، وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، لنستعين بذلك على فهم الحقيقة المحمدية، فأصبنا من ذلك على قدر الاستعداد والمرتبة، ولم نر فيه إلاّ أننا قد اقتربنا من محيط دائرة النور الإسلامي وحقيقته، وما ذلك إلا قطرة من بحر فضائله وأسرار كمالاته.
غير أننا طامعون في رضا الله أن يتقبل عملنا اليسير، هذا بما يتقبل به صلاة كل من صلى على حبيبه وصفيه من خلقه، وأن يجعل ثوابه خالصا لروحه الكريمة، ولأرواح كل من تبعه وأحبه، من يوم مبعثه نبيا إلى يوم مبعثه شفيعا.
كما نسأل الله تعالى أن ينفع به كل من قرأه من المسلمين في دينه ودنياه ، وينور قلبه بصحبة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات، في هذه الوريقات، عسى أن يزداد به معرفة وقربا.
فاللهم اغفر لنا تقصيرنا في حقه علينا، وتجاوز عن جهلنا بقدره ومقامه، ولغفلتنا عما يرضيك ثم يرضيه فهذه حدود سعينا ومبلغ علمنا فإنك غفور رحيم، وإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم
صلوات ربك وسلامه عليك يا خير خلق الله كلهم، بعدد خلق الله كلهم.
الإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
بكلمة الإخلاص التي شهادة التوحيد،يخرج الإنسان من الجهل بالله أو الشرك به إلى توحيده إلها،والتصديق به خالقا،والتسليم له ربا،وذلك هو عهد المخلوق للخالق.ويبقى بعد هذا العهد الالتزام بمضمونه وهو العبادة.والعبادة تقوم على مجموع الطاعات من أوامر ونواه وحلال وحرام،وغيرها مما يتكون منه الدين.
ومعلوم أن العقل البشري عاجز أن يصل إلى وضع سنن وقوانين في العبادات والمعاملات تكون وفقا لما يرتضيه الله لعباده،ويريد منهم.ولو فرضنا جدلا أنّ العقول البشرية قادرة على ذلك،لكان إذاً لكل إنسان دينه الخاص وطاعاته وطقوسه التي تختلف عن الملايين من الديانات البشرية الأخرى ، طبقا لاجتهادات عقول الملايين من الناس ؛فيكون عندئذ بكل دين إله ،وهذا وحده كاف للتدليل على أنه لا إله البتة ،أو على أن ثمة إلها واحدا صمدا ،له دين واحد ارتضاه للناس كافة،وعليهم جميعا أن يدينوا به ويجتمعوا عليه[1] .
ولقد ابتدعت البشرية في عصورها الأولى دياناتٍ لآلهة اخترعتها ،وتقربت لها ابتغاء مرضاتها وكف غضبها والظفر بحمايتها،لما رأت فيها من قوة ،فألّهت الحيوان والنار والكواكب وغيرها، وابتدعت الطقوس التي تفي بحاجات النفس الفطرية إلى الخضوع والعبودية للقوة الكونية القاهرة...
وكل ذلك لا يُعتبر من الدين الخالص، لأنه وثنية، لذلك أرسل الله الرسل ليعلموا العباد أنواع العبادات والأحكام التي تنظم حياة الناس الدنيوية والأخروية، بعد أن يكونوا قد آمنوا برب العالمين الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ومعلمين.
وشاءت الحكمة العلية أن تروض الناس وتسوسهم وتتطور معهم الرسالات ، طبقا لحاجاتهم البشرية المرحلية، لتعدهم في الآخر لتقبل الرسالة الكاملة والدين التام وهو الإسلام الذي يستوعب كل الديانات السابقة وينسخ منها ما لم يصلح إلاّ لفترة من حياة الناس دون غيرها ،وليضيف إليها ما لم يكن بها مما تحتاجه البشرية ما بقيت.
فجاء هذا الدين مستوفيا للناس مطالب الدنيا والآخرة وأكمل لهم الشرع الجامع الخاتم،فلا تبديل بعده؛ لأنه الكتاب الذي لم يفرط في شيء مما يستهدى به الإنسان في علاقاته مع الخالق أو المخلوقين؛لأن الفطرة الإنسانية لا تقبل تبديلا ولا تطويرا أصالة،مهما رقت الحياة وتطورت الحضارات.
وقد اختار الله تعالى للكلمة الخاتمة لدينه الحنيف محمد صلوات الله عليه، رسولا مبلغا بإذنه، فكان له شرف الرسالة الجامعة الكاملة التي بُعث بها للعالمين بشيرا ونذيرا، فليس بعد كلمته تبديل لكلمات الله، حيث لا تبديل في طبائع مخلوقا الله.
الحكمة من إرسال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
ولما علم الله ضعف العقل الآدمي وقصور اجتهاده عن أن يدرك حقيقة التوحيد، فقد شرع للناس نهجا تاما وملة كاملة، لتوصلهم إلى ربهم الله، بلا زهق أو تدبر،وبلا تشتت بينهم أو تفرق،فأعدّ لهم الشريعة المحمدية الحنفية( دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )[2] وارتضاها سبحانه وتعالى واحدة لكل الناس، فقال ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )[3].
وبهذا الاستيعاب تكون كلمة الله قد تمت، وعمت الوجود الإنساني كله، فإذا لسان حال المؤمنين ناطق بحمد الله على كمال شرعه وتمام نعمته ،ورضاهُ سبحانه الإسلامَ لهم دينا، كما نطقت بالحمد من قبلهم كل الكائنات على نعمة إيجادها من ظلمة الغيب إلى نور الظهور،فسبحت كلها لخالقها ( وإن من شيء إلا يسبخ بحمده )[4].
وهكذا كان تسبيح الكائنات ( الحمد ) التي هي فاتحة كتاب الوجود أولا،ثم هي فاتحة كتاب الله دستور هذا الوجود ثانيا.ومن الحمد الموهوب للسان الخلق من اسمه تعالى ( الحميد )فقد اشتق أسماء عبده ( محمد ) عليه صلوات الله، و( أحمد ) و ( محمود ).
التهميش
[1] وما دام العقل قد سلم بمنطق الأسباب والمسببات وسلّم بأنّ هذا الكون حادث،فإنه مضطر أن يسلم بأن الذي أوجد هذا الكون هو الله،والذي أوجد الكون هو المشرع الوحيد الذي يتبع الناس شرعه ويرفضون تشريعات غيره
[2] الأنعام:161
[3] الأنعام:153
[4] الاسراء:44
مكانته صلى الله تعالى عليه وسلم
فهو فاتحة كتاب الابتداء ف هذا الكون،إذْ لم يخلق الله شيئا قبله، قال عليه الصلاة والسلام
أول ما خلق الله تعالى نوري )[1] ،وهو أيضا فاتحة كتاب الإعادة لهذا الكون
كما بدأنا أول خلق نعيده )[2] ، قال عليه الصلاة والسلام
أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة )[3] .
وما بدئ بالحمد إلا في أمر ذي بال، وأي أمر أهم من إنشاء الكون من عدم، ثم بعثه من الموت للآخرة، وبذلك تمت النشأتان، فلله الحمد في الأولى والآخرة، فكان أن خصه ربه تعالى بالسبع المثاني التي هي سورة الحمد ( سورة الفاتحة ).
وكما كان محمد عليه الصلاة والسلام فاتحة كتاب الوجود أولاه وأخراه،فهو أيضا خاتمة هذا الكتاب، لكونه خاتم الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام
لا نبي بعدي )[4] ؛ أي لا تشريع بعد شريعتي، فعيسى عليه الصلاة السلام سيبعثه الله في آخر الزمان، ولكنه يُبعث بالشريعة المحمدية خليفة لمحمد النبي صلى الله عليه وسلم لا نبيا، إذْ لا كامل بعد الأكمل، ولا شريف بعد الأشرف، والإسلام دين الكمال
اليوم أكملت لكم دينكم )[5]
حقيقته صلى الله عليه وسلم
ذلك من حيث ظهوره في البدء وفي الإعادة، أما فيما بينهما فقد كان لمقامه الكريم السريان الكامل في الوجود، لأن الله تعالى قد خلق الكون من عين رحمته، إذْ أن العدم شر[6]، والوجود خير، وإخراج المعدوم إلى الوجود إنما يكون من أصل الرحمة التي سبقت كل شيء، فوسعت كل شيء، قال تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء )[7]،كما وسعه علمه القديم في قوله
والله واسع عليم )[8]، ثم في قوله الشامل للرحمة والعلم على لسان الملائكة
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما )[9] وهذه الرحمة هي التي قصرها على الرسول عليه الصلاة والسلام حين خاطبه بقوله تعالى
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )[10].
والرسول صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه الله من أنفسنا، أي من جنس البشر ولم يجعله ملائكة ليكون قدوتنا منا لا من جنس غريب عنا، اصطفاه الله ليكون واسطة بين الحق والخلق.
فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة التي ربطت الخلق بالحق بواسطة " العروة الوثقى " وهي القرآن الكريم، من تمسك به لن يضل أبدا لأنه لا انفصام لها.
ويبقى الخلق دائما في حاجة إلى من رَبَطَهُمْ بالحق وهو محمد صلى الله عليه وسلم ليوضح لهم طريقهم إلى الحق وطريقة الاستمساك بالعروة الوثقى.
فالعلاقة بين الحق والخلق علاقة معبود بعابد ، والعلاقة بين الخلق والنبي محمد صلى الله عليه وسلم علاقة متعلم بمعلم.
وما دمنا لا نصل إلى العلم إلا بالمعلم، فإننا لا نعرف الله إلا بمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحب هو باطن الرحمة، والرحمة هي ظاهر الحب، وقد وصفه ربه ببعض صفاته، فقال عنه
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )[11]،وهو من اسمه تعالى ( الرحيم ) الذي يتجلى به في الآخرة، وكذلك هو الشفيع في المؤمنين يوم القيامة، والشفاعة أعظم رحمة أوتيها لأمته في أعظم أيام الناس هولا، قال عليه الصلاة والسلام
ما نبي إلا أعطي دعوة معجلة، وأنا خبأت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )[12] وبهذا الحديث يتضح قوله عليه الصلاة والسلام
إنما أنا رحمة مهداة )[13]
ولايتـه ورسالتـه
لكل رسول وجهتان: وجهة إلى الحق تعالى، وفيها يتلقى ما يوحى إليه،وتسمى الولاية إذا كانت وحيا بغير شرع، وتسمى النبوة إذ كانت وحيا بشرع، ووجهة إلى الخلق لتبليغهم ما أمر بتبليغه، وتسمى الرسالة. ويقول صلى الله عليه وسلم في شأن الولاية
لي وقت مع ربي لا يسعني فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب )[14] ويقول في شأن الرسالة
إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة )[15].
ولما كانت ( الحمد ) فاتحة الكتاب،فإنه عليه الصلاة والسلام كان الفاتح لما أغلق من الولاية لله التي ارتفعت بعدما رفع عيسى عليه الصلاة السلام، وكذلك هي ( أي الحمد ) خاتمته –كما سيأتي تفصيله- فكان هو الخاتم لما سبق من الرسالات التي بدأت بآدم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم )[16] ، فبينهما انحصرت الولية والرسالة، فكانا طرفين لهما على غير كمال،فأحدها فتح ولم يغلق، والأخر غلق ولم يختم، فبقي النقص،وسائر الأنبياء كانوا كذلك، حتى جاء الفاتح الخاتم عليه وعليهم أفضل الصلوات،وقال في هذا
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين،وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا دين) أو كما قال.[17]
مقامه بين الأنبياء
يقول صلى الله عليه وسلم
لو أن موسى وعيسى حيان ما حل لهما إلا أن يتبعاني )[18].
وهكذا سائر الأنبياء لو كانوا أحياء، لعلمهم أنه أحمدهم لربه، ولأنه أعلمهم لربه، فهو الممد لهم بمجامع الحمد والثناء، كما تمد الشمس الكواكب بالضوء، في قوله تعالى
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا )[19] ، وفيه قال تعالى
يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )[20]
فوجه الشبه بين السراجين هو المدد النوراني ، فالنور المحمدي في الرسل كنور الشمس في الكواكب (وعلامات وبالنجم هم يهتدون )[21] ، فبالكواكب يستهدى السارون بليل،ويتبعون وجهة الأنجم، كما يتبع كل نبي مؤمنون ومصدقون، فلكل نبي أتباع، وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام هم الرسل جميعا وأتباعهم، فهو خاتمهم لأنه آخرهم، وهو إمام المرسلين لأن رسالته ناسخة لكل رسالاتهم، ولأن التشريع الذي أنزله عليه الله تعالى أو في التشريعات جميعا، وهي جميعا منسوخة عند الله تعالى لظهور الكامل وهي ناقصة، ولظهور الصحيح وهي محرفة، ولظهور الباقي إلى يوم القيامة وهي زائلة ولأنها جميعا جاءت لفترة من الوقت والقرآن جاء للوقت كله.
لذلك كان الخاتم، فكل أمر لابد له من نهاية، وإذا انتهى ختم لأنه لا نهاية بعد النهاية، ورسالة ربنا بلغت الكمال فكان لابد لها من ختام،فختمت بـ
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )[22] ، وكان لابد لها من خاتم فكان محمد صلى الله عليه وسلم
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل )[23] ، قال سبحانه
وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )[24] وقال أيضا
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )[25].
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر )( أحمد وابن حبان والبزار) الحديث.
وبذلك جاءت دعوة النبيين دعوته،ودعوة أهل الخلد في الجنة دعوته بقوله تعالى
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )( يونس:10) ، ولقد علمنا أن سورة الحمد تسمى الفاتحة، لأنها بدء القرآن،وهنا ذكر أنها آخر دعوة، فكانت الحمد فاتحة،وكانت خاتمة،تطابقا تاما مع كلمة الشهادة التي بيناها في موضوع (لا إله إلا الله).
ثم إن حكمة الله جعلت كل مخلوق يسبح بالحمد دون غيره من تسبيح، كما ذكرت الآية( وإن من شيء إلا يسبح بحمده )(الإسراء:44) ، فكأن كل شيء يذكر العلة التي بسببها لحقته رحمة الإيجاد ، وهي الرحمة التي عمت العالمين، كما جاء في خطاب الله لنبيه بقوله( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء:107)، ويتفق هذا مع ما أجاب به عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام،حين سُئل:لمَ سميته محمدا؟قال(إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم ) وذلك لرؤيا رآها، وقد خرجت من ظهره سلسلة من فضة لها طرف في السماء وطرف في الأرض إلى الجهات الأربع.
فهو في الأرض ( محمد ) لقوله تعالى( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار )(الفتح:29) وقوله ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق )(محمد:2) فمكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الأرض مع من أرسل إليهم من المؤمنين الذين (معه)،كما أن ما نزل على محمد نزل من السماء إلى الأرض فهو يتلقى المدد من السماء، وهذه درجة لا يصلها إلا من اصطفاه الله نبيا رسولا.
وهو عليه الصلاة والسلام في السماء ( أحمد ) لقوله تعالى( وإذْ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )(الصف:6).
وفي ليلة المعراج عندما كان قاب قوسين أو أدنى من ربه،كان تعالى يردد في خطابه لحبيبه نداء ( يا أحمد ) لأنه كان في مقام " الأحمدية " الواحدية ساعتئذ، وكان معروفا في الملأ الأعلى بأنه أحمدهم لربه وأوفرهم ثناء عليه، أليس أول ما خلق الله تعالى نوره؟أفلا يكون أول المخلوقين حمدا لخالقه ؟
وإنه في الآخرة ( محمود ) لقوله تعالى( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا )(الإسراء:79) وهو مقام الشفاعة أو مقام الوسيلة أو هما معا ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك ( الوسيلة مقام في الجنة لا يكون إلا لرجل واحد وأرجو أن أكون أنا )(مسلم وأبو داود والترمذي من حديث طويل) وما دام عليه السلام يرجو لنفسه هذا المقام، فقد ندب في حق المؤمنين أن يدعوا لنبيهم أن يؤتيه الله الفضيلة والوسيلة والمقام المحمود الذي وعده، وهو الدعاء الذي يتوجه به المصلون خمس مرات في اليوم؛ فكلما سمعوا انتهاء الآذان قالوا: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد.
وهو في جميع مقاماته الأرضية والسماوية والأخروية، ناصر الحق تبارك وتعالى بإظهار دينه وإعلاء كلمته ، بالحق الذي هو الشرع القرآني، الهادي للتي هي أقوم في الدارين ؛ وهو ناصر الحقيقة القائمة بها (لا إله إلا الله)، بالشريعة القائم بها (محمد رسول الله)، الهادي بها إلى صراطك المستقيم.
التهميش
[1] أورد القرطبي في ج12 ،ص 286 قوله صلى الله عليه وسلم
خلقني الله من نور ).
[2] الأنبياء:104
[3] رواه مسلم
[4] رواه البخاري من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب،وقد استخلفه عندما خرج صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك،ورواه أحمد والترمذي بلفظ مختصر،وكذا أخرجه مسلم.
[5] المائدة: 3
[6] المؤلف يقصد أنه شر بالنسبة للمفهوم الضيق للبشر .
[7] الأعراف:156
[8] البقرة:268
[9] غافر: 7
[10] الأنبياء:107
[11] التوبة:128
[12] البخاري بلفظ ( لأمتي ).
[13] ابن كثير في سورة الأنبياء.
[14] وهو في رسالة القشيري بلفظ لي وقت لا يسعني فيه غير ربي، ويقرب منه ما رواه الترمذي في شمائله وابن راهويه في مسنده عن علي في حديث كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس كذا في اللآلئ، وزاد فيها ورواه الخطيب بسند قال فيه الحافظ الدمياطي أنه على رسم الصحيح، وقال القاري بعد إيراده الحديث قلت ويؤخذ منه أنه أراد بالملك المقرب جبريل وبالنبي المرسل أخاه الخليل
[15] البخاري بلفظ مختلف.
[16] آل عمران:60
[17] ابن حبان عن ابن عباس بلفظ مغاير.( وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن العرباض بن سارية أنه قال : ( إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته )
[18] رواه ابن بطة العكبري في كتاب الإبانة
[19] نوح:15
[20] الأحزاب:46
[21] النحل:16
[22] المائدة:3
[23] آل عمران:144
[24] آل عمران:81
[25] النساء:41
أحد مقاماته الخاصة
فلظهوره صلى الله عليه وسلم في الأطوار كلها كان له من ربه شرف الرفعة والذكر، فقد قرن طاعته تعالى بطاعته، فقال ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول )(التغابن:12)، بل لقد جعل طاعة الرسول هي طاعة الله فقال ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (النساء:80)، ومعنى الطاعة هنا هو الاقتداء والإتباع،فمن قال أنه قد أطاع الله وأطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يتبع شرعا غير شرع الله، ويستن بسنة غير سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو كاذب على الله وعلى رسوله، ومن كذب على رسول الله متعمدا فليتبوأ مقعده من النار !
بل لقد زاده تشريفا، فوقف حبه لعباده على اتباع نبيه، فقال ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ) (آل عمران:31) فأية مكانة ظاهرة أعظم من هذه عند الله لنبيه في الدنيا؟
إنها مكانة الولاية العظمى من ربه، وعلى المؤمنين التمثل بما عامل به الله نبيه، فيتولونه من دونهم، وبهذا أوصاهم الله تعالى بقوله ( النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم )(الأحزاب:06) وبقوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65).
وإذا كان تسليم الأمر له، فيما يحكم به بين الناس، بلا حرج أو ضيق في نفوسهم، شرطا للإيمان به وبرسالته المبرهن عليه بالتسليم فيما قضى بلا خيرة، هو عين الإيمان بالله، فهو ( أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) لأنه ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ).
ولاقتران طاعته بطاعة الله، ناسب اقتران اسمه باسمه، فقال ( ورفعنا لك ذكرك )(الشرح:04) وذلك في التشهد و الآذان و الإقامة فتجب الشهادتان على كل مسلم وقت إسلامه و حين الموت لملاقاة ربه ، و أن يرددهما خمس مرات عند الإقامة،كل يوم في حياته؛لأنه صلى الله عليه السلام وسيلتنا إلى معرفة ربنا ،فلولا ( محمد رسول الله ) ما تحققنا بـ ( لا اله إلا الله ) ، ولولا ( لا اله إلا الله ) ما كان ( محمد رسول الله ).
فبالحقيقة المحمدية حصلت لنل المعرفة بالله، ولولا هذه الحقيقة ما خلق الله ( وما خلقت الجن و الإنسان و إلا ليعبدون )(الذاريات:56).
كما أنه لولا هذا الكون ما تهيأ للحقيقة الشرعية قالب تفرغ فيه، قال أحكم القائلين(ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا)(الفرقان:45)، فلو بقى الله وحده بلا كون يدل على خالقه ، لما قادنا إلى معرفته شيء ،فوجود هذا الكون كان بمثابة وجود الظل الدال على وجود جسم ولولا ما وجد الظل.
سبب اجتبائه عليه السلام لهذا المقام
ومثل هذه المنزلة التي اجتباه ربه لها لم يكن ليتبوأها من غير كرامات الله له، بما يمتحنه به من بلايا عظام،على قدر إيمانه العظيم، فالله يبتلى العباد على قدر إيمانهم، وبلاؤه تعالى من رحمته لهم، كما ورد في الحديث (إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه،فإن رضي اصطفاه)(الديلمي عن علي بن أبي طالب).
ومادام العبد يبتلى على قدر إيمانه، فلا شك أن بلايا الأنبياء تكون أعظم من بلايا غيرهم، قال تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)(البقرة:253)ولهذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل)(البخاري والطبراني وغيرهما)، وهو بلا شك أمثلهم،فهو أشدهم بلاء.ولا يعتبر تكذيب الرسل من قبل أقوامهم هم كل البلاء ولا أعظمه، بل هو بعضه، فإن عامة المصلحين يُكذبون ويُتقول عليهم، لكن بلاء المصطفى الأعظم أكبر من ذلك. وأشده عليه أمران:
01- ما أفادته الآية الكريمة، وهي قوله تعالى( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله )(الحشر:21) فتلك حال الجبل، فكيف بالإنسان؟ ولقد ذكر صلى الله عليه وسلم حالته عند تلقي الوحي في حديث عائشة رضي الله عنها (أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله:كيف يأتيك الوحي؟ فقال عليه السلام: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فينفصم عني وقد وعيت ما قال..)(البخاري).
ولقد كان يتفصد جبينه عرقا في الليلة القارسة، من شدة ما ينزل عبه من ثقل الوحي، وما يتعرض له من عظيم التجليات الإلهية، التي أشار إلى شيء منها في حديث المعراج، حيث ذكر ( لما خلوت بربي أوحى إليّ ثلاثة علوم:علم أخذ عليّ العهد بكتمانه، إذ قد علم أنه لا يطيق حمله غيري..)(من رواية أبي هريرة ولم أعثر على سنده). وفي هذا دلالة على شدة ما يحمل صلى الله عليه وسلم من أعباء الوحي.
ويدخل في هذا النوع من البلاء بالنعم نعمة الابتلاء بالحب، فكتب التاريخ والسير تحدثنا عن بعض المحبين الذين جُنُّوا بحب بشر مخلوق مثلهم، وسمي حبهم ( الحب العذري ) وقد خلدوا ذلك في أشعارهم المعروفة.
فما بالك بمن أحب الله وأحبه الله؟!
فما بالك بمن أحب نور السموات والأرض؟!
ومن اختصاص المعرفة بالله اقترانها بحب الله، خلافا للمعارف الأخرى، فيخرق نورها القلوب والأجسام وينفذ إلى الأرواح، وحول هذا المعنى أشار الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه في قوله ( غصت في لجج المعارف طلبا للوصول إلى الحقيقة المحمدية، فإذا بيني وبينها ألف حجاب من نور، لو دنوت من الحجاب الأول لاحترقت كما تحترق الشعرة إذا ألقيت في النار).
02- والبلاء الثاني المختص به صلى الله عليه وسلم هو حزنه العظيم على أشقياء أمته أحياء وأمواتا، ولا سيما يوم لا ينفعهم مل ولا بنون ؛ وهو الرؤوف الرحيم ، يراهم يُساقون إلى النار ، ألم يخاطبه ربه بقوله ( فلعلك باخع (مهلكٌ نفسكَ) نفسك على آثارهم إن لم يِؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) (الكهف:6) وبقوله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) (فاطر:
وبقوله ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يُهدى من يضل)(النحل:51).
وفي هذا البلاء الدنيوي والبلاء الأخروي قال عليه السلام ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) (البخاري) ولكن حجب النفوس تقوم دون إدراك الحقائق، فلا تنظر البصائر إلى العواقب من الخسران والحسرة، ( وما قدرا الله حق قدره ) (الزمر:66)، لأنهم في الحقيقة ما قدروا الرسول حق قدره.
فضل الولاية على الرسالة
مما تقدم يتبين لنا أن ما يبتلى به عليه السلام راجع إلى جهتين، إحداهما جهته صلى الله عليه وسلم إلى الحق تعالى فيما يتنزل عليه من القرآن وسائر الوحي في سائر الأحول. وثانيهما جهته إلى الخلق فيما يبلغهم عن ربه، فيعصون ، فيهلكون ، فيحزنه أمرهم لأنه بهم رؤوف رحيم، فيحزنه كفرهم لأنه من أنفسهم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) وكانت الجهة الأولى صافية لا كدر فيها، إلا ما لها من هيبة الجلال.وكانت الجهة الثانية كدرة بما يشوبها من عصيان المكذبين ومكابرة الضالين.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يسعى لتحقيق حسن ظن الله به، فقد اصطفاه ليكون مبلغا رسالته إلى الناس، فكان يحس أنه مقصر في حق الله إذا لم يؤمن الناس جميعا لأنه مرسل إلى الناس كافة ، ولذلك كان مع الله سعيدا يناجيه ويتقرب إليه بالنوافل ليزداد فيه حبا ومنه اقترابا وبه معرفة..
وكان مع الناس متحسرا لأنهم لم يؤمنوا به إلا قليلا، أي أنهم لم يشاركوه في تعظيم العظيم، فلم يفرغوا قلوبهم من حب الدنيا ليملأوها بحب الله، ولم يمزقوا مواثيق البشر الجائرة ليستمسكوا بميثاق الله الغليظ ولم يحقنوا دماءهم التي يسفكونها في سبيل (العصبيات) والقوميات والإقليميات ليقدمونها قربانا في سبيل الله إذا نادى المنادي..
ولذلك كان الله يمسح على قلبه بين الحين والحين غشاوة الشقاء من عنت الناس وكفرهم، كقوله ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) وقوله تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يِؤمنوا بهذا الحديث أسفا ). ولهذا الفرق بين الولاية والرسالة، فقد فضلت الولاية على الرسالة، أي ولاية الرسل على رسالتهم.
أقسام الولاية
تنقسم الولاية إلى صغرى وكبرى.
فالصغرى أن يتولى العبد ربه بطاعته والتزام أوامره وتجنب سخطه بتجنب ما نهى عنه، وبفعل النوافل ما استطاع، ويشير إليها قوله تعالى (الله ولي الذين آمنوا)(البقرة:257)،و قوله أيضا) إنما و ليكم الله و رسوله)(المائدة:55).
و الولاية الكبرى أن يتولى الله عبده،بأن يمحق من قلبه كل ما سواه،فيرى إلا الله، ولو حاول الالتفات إلى غيره لم يجد سبيلا، وهي درجة النصر من الله، فطاعة العبد لربه و تقربه إليه بالنوافل و الإعراض عن المعاصي و الخوف من الله ...هذه الأعمال من المؤمن خالصة لله يقابلها الله بأن يتولى هو تعالى إدارة شؤونه العامة لأنه وكل نفسه لله فتولاه الله بالرعاية و الحماية ومن يتوله الله فلا خوف عليه لأنه في يد الله ولا خوف منه لأنه لا يفعل الشر بل يدعو إلى الخير و يشير إليها قوله تعالى ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )(يونس:62)،و قوله أيضا( وهو يتولى الصالحين )(الأعراف:196).
عبوديته صلى الله عليه وسلم
و شعورا بالمنة الإلهية في تولى الله للعبد، فإن العبد يتوجه إلى خالقه بالشكر، عن طريق تأكيد التحقق بالعبودية،حتى يتمكن في مقامها الذي هو الأفضل من الرسالة،لأن العبودية هي انصراف العبد من نفسه إلى الحق تعالى،فضله بها على كثير من عباده الذين اصطفى، فكلما كان العبد شكورا لربه،زاد رسوخ قدمه في العبودية لله، وقد بين الله ذلك في كلامه على نوح عليه السلام،حيث قال(ذرية من حلمنا مع نوح إنه كان عبدا مشكورا)(الإسراء:30).
و بتخلي العبد عن نفسه ، وتوكيل الأمر كله إلى سيده، يكون منه قاب قوسين ، ولذا قال تعالى في وصف هذه الحال(فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده )(النجم:9).وليس أعلى من درجة (قاب قوسين)إلا(أدنى) وهي لعبد واحد ، وهو الحبيب المصطفى صلوات الله و سلامه عليه، وفي تلك الدرجة العلية كان وحي الله الأكبر لعبده أحمد,فجاء تعظيم الله لهذا الجمع الأدنى،بقوله تعالى(سبحان الذي أسرى بعبده)(الإسراء:01) ثم جاء أيضا تعظيمه للفرق من بعده، بقوله تعالى(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)(الفرقان:1).
وقد ذكر الفخر الرازي عن والده قال: سمعت أبا القاسم سليمان الأنصاري يقول: لما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة العالية والمراتب الرفيعة في المعارج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد، تمّ شرفك قال: يا رب بنسبتي إليك بالعبودية.
ولما كان عليه السلام أحمد، فهو أعبد لله من غيره، وبذلك يكون أحب إلى ربه من غيره، فهو حبيب الله الذي اصطفاه لنفسه على سائر الرسل بمن فيهم الخليل والكليم والنجي، فخاطبه تعالى مباسطا بمثل قوله ( يا أيها المزمل ) و ( يا أيها المدثر ) في حين خاطب بقية الرسل بأسمائهم، وليست المباسطة في حضرة الربوبية إلا دليل الحب الخاص. ومن الحب كانت الرحمة السابقة، والرحمة الواسعة، والرحمة القريبة والرحمة الخاتمة.
صيغة الشهادة بمحمد(صلى الله عليه وسلم)
للنبي صلى الله عليه وسلم مقامات، أعمها البشرية، وأخصها العبودية، وبينهما مقامات الولاية، فالنبوة فالرسالة. وما عدا المقام الأول، فالكل يعود إلى صلاته المتعددة بالله، وان شهادة الإسلام لا يجزى فيها قول القائل: أشهد أن محمد ولي الله، أو نبي الله، أو عبد الله، لأن هذه الأوصاف تقتصر على علاقته بربه خاصة لا تعني الشهادة له بتبليغ الشرع الإسلامي للناس.
أمّا الجهة الواصلة بينه وبين الخلق فهي الرسالة، التي تعني تبليغه الدين للعالمين، فلا بد من الشهادة له بالتبليغ، والشهادة على النفس بالبلوغ، وذلك لإتمام مسؤولية التكليف، ووجوب الإتباع لدين الله عن بينة وإقرار، لإحقاق شرعية الجزاء يوم الدين ثوابا أو عقابا، وجماع ذلك كله في قول الشاهد: أشهد أن محمدا رسول الله ،لا يجزئ غيرها.
بقاؤه حيا إلى يوم القيامة
كل الذين انتقلوا إلى الدار الآخرة أحياء في البرزخ، ينعمون أو يعذبون، ولقد تواترت أخبار عن عذاب القبر، والعذاب إحساس بالألم، والإحساس من خصائص الأحياء لا الأموات، فالموت بالمعنى الشائع المرادف تقريبا للفناء ليس مما يصيب الإنسان إلا في جسده.
لكن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من هذا القبيل، إنها حياة بجسده الشريف وروحه الطاهرة معا، ونوضح القول فيها بما يلي:
01- حياة جسده: جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم عن أوس بن أوس رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ. قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ( يعني بليت ) فقال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ).
ذلك لأن أجساد الأنبياء تتبع أرواحهم، بينما أرواح غيرهم تتبع أجسادهم، ولقد صلى عليه السلام ليلة الإسراء بالأنبياء الذين كانوا قد ماتوا من قبله بقرون..
02- حياة روحه: أما حياته بروحه صلى الله عليه وسلم، فننا نستنبطها من قوله تعالى ( ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ) (آل عمران:168) هذا ما أخبر به القرآن عن الشهداء، الذين أخذوا عن رسول الله فضيلة الجهاد، ونالوا به جزاء الشهادة، وهو عليه السلام أعلى منهم بما لا يحصى من الدرجات.
أفلا يكون من البديهي أن يتقدم على الشهداء في أحقية الحياة؟ وقد ورد في الخبر أنه يسأل عن كل فرد من أمته حين يدرج في قبره، ليقول فيه رأيه بحسب معرفته به، على قدر ما صلى عليه.
كما ورد أيضا قوله في الحديث ( إن لله ملكا أعطاه سمع الخلائق ، وهو قائم على قبري إذا مت يوم القيامة، فليس أحد من أمتي يصلي عليّ إلا سمّاه باسمه واسم أبيه ، قال : يا محمد صلى عليك فلان كذا وكذا، ويصلي الرب على ذلك الرجل بكل واحدة عشرا ) (البزار وأبو حبان والطبراني).
ثم لنتدبر قوله تعالى في آية أخرى ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون ) (التوبة:105)
ذكر رسوله مع الله ومع المؤمنون، ونسب الرؤية للجميع، والله حي، والمؤمنون أحياء، ولا يعقل أن يذكر ميت بين حيين، والميت لا يرى. والآية عبرت بلفظ ( يرى ) الدال على الاستمرار؛ والرؤية قد تكون هنا في الدنيا وقد تكون يوم القيامة كنوع من الشهادة على أعمال المؤمنين ليفوزوا بدار القرار والله أعلم.
فضل الصلاة عليه
قال عليه الصلاة والسلام ( من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ) (مسلم وأبو داود)
وقال تعالى ( إن الله وملائكته يُصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا الله عليه وسلموا تسليما ) (الأحزاب:56) فهذا أمر صريح للمؤمنين بالصلاة على النبي.
ومعنى الصلاة عليه، أننا نوكل الله أن ينوب عنّا في مجازاة النبي ومكافئته على فضله علينا الذي لا نقدر أن نوفيه حقه كاملا، مهما اجتهدنا في ذلك ، فنسأل الله الصلاة عليه، أي المدد الرحماني لذاته الشريفة بفيوضات الأسرار والأنوار، لأن الصلاة رحمة كما دل على ذلك قوله تعالى ( وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ) (التوبة:103).
كما أن السكن هو الطمأنينة والقرار الناشئان عن الرحمة، يفسر ذلك قوله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (الروم:21).
فالصلاة عليه هي مدد من الله تعالى من عين الرحمة التي وسعت كل شيء، لذلك لا يقتصر هذا المدد على الرسول وحده ، بل يعم كل من صلى عليه وقد تضاعف عشرا ، لصدوره من الله ومن الملائكة ، قال تعالى ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) (الأحزاب:43)، فلولا صلاتنا عليه ما صلى الله علينا، فصلاة الله على عباده إنما هي بسبب صلواتهم على نبيه، فتمثل رحمته تعالى بعباده، حيث تخرجهم من الظلمات،والسبب الحقيقي لهذه الرحمة هو محمد المرسل رحمة للعالمين،هدية من الله للخلق كافة
الله والملائكة والمؤمنون
لقد تقدم في موضوع شهادة التوحيد أن العبد مطالب بالتعلم عن الله ومشاركة الملائكة وأولى العلم في تلك الشهادة،وكذلك هنا طولب العبد بالأخذ عن الله ومشاركة الملائكة في الشهادة برسالة محمد؛ لأن "مشاركة"(*) العبد في الصلاة على النبي هي شهادة بنبوته ورسالته.فعندما قال تعالى(إن الله وملائكته يُصلون على النبي) دل ذلك على شهادة الله بنبوة محمد، فأوجب هذه الشهادة على الذين آمنوا بالله بقولهم (نشهد أن لا إله إلا الله) بصريح الأمر( صلوا ) أي اشهدوا أنّ ( محمد رسول الله ) ليكمل إيمانكم بي، بدخولكم في ديني الذي هو الإسلام المرسل به محمد عليه السلام.
(*) فصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم تعليم رباني للملائكة وللمتقين من المؤمنين بأخذ منهج الشهادة على محمد صلى الله عليه وسلم عن الله، والمشاركة هنا تعني أخذ المنهج عن الله كما علمه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع المسلم في الشرك
وقد رأينا أن المشاركة الأولى بين الله والعبد قد كانت في الركن الأول من أركان الإسلام الذي هو الشهادة أما المشاركة الثانية هذه فقد كانت في الركن الثاني الذي هو الصلاة؛ حيث لم يقم الله بأي عبادة أوجبها على عباده إلا الصلاة، فقد صلى هو وملائكته؛ والصلاة عماد الدين، والفاتحة عماد الصلاة؛ إذْ ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) (رواه الجماعة) كما في الحديث الشريف.
وقد تقدم في أوائل هذا الموضوع أن الفاتحة هي سورة النبي، بصريح خطاب الله تعالى له بقوله ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) (الحجر:87) وهي سورة الفاتحة المتألفة من سبع آيات، مبدوءة بكلمة (الحمد) التي منها أسماؤه الشريفة ( محمد ) و ( أحمد ).
ولقد ظهر الاشتراك في الصلاة بين الله والعبد في ما أورده الحديث القدسي عن أبي هريرة ( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي( وقال مرة فوض إليّ عبدي )، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم..( إلى آخر السورة ) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.( رواه مسلم)
صلوات وتسليم
وخير ما نختم به حديثنا هذا هو هذه الصلوات المباركة لروحه الكريمة الطاهرة:
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
لما نزل قوله تعالى( إن الله وملائكته يصلون..الآية ) قال كعب: قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فذكر هذه الصلاة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك.
والصلاة على النبي جائزة بأية صيغة معروفة أو غير معروفة؛ لأن المهم هو الامتثال إلى أمر الله تعالى في قوله (يا أيها الذين أمنوا صلوا الله عليه وسلموا تسليما ).