رحمة وشفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّتهالحمد لله ربِّ العالمين، الرحيم بعباده المؤمنين، والرءوف بالخلق أجمعين، والشفوق والعطوف على هذه الأمّة المحمّدية. إكراماً لسيّد الأوّلين والآخرين. سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في كلّ وقت وحين. وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، إله جلّ فى صفاته. وتعالى في كمالاته، نعصيه فيسترنا. ونسيئ فيغفر لنا، وننساه فيذكرنا، ولايتخلّف عن الذي تعهّد به إلينا. منّة منه وفضلا. وأشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبد الله ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله. أرسله الله رحمة مهداة، ونعمة مسداة. لجميع خلق الله. اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد.وعلى آله الأبرار. وأصحابه الكرام.وعلى كلّ من تبعهم بإحسان،
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون. يقول الله جلّ جلاله في سورة التوبة. عن رسوله الذي اختاره واصطفاه؛ لينزل عليه القرآن، ويبلّغ الرسالة الخاتمة للناس:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. والتعبير في قوله تعالى:{من أنفسكم}. فيه دلالة على عمق الصّلة بين هذا النبيّ والجنس البشري؛ فهو جزء منهم، من أنفسهم؛ فعلاقته بهم علاقة النّفس بالنّفس، وصلته بهم صلة النفس بالنفس؛ لذلك كانت رسالته رحمة للعالمين؛ قال الله تعالى في سورة الأنبياء:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وإذا تأمّلنا أيضاً في القرآن الكريم. عرفنا مدى حرص نبيّنا سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. على هداية البشرية كافّة، وشفقته ورحمته بهم؛ مثل قول الله تعالى في سورة الكهف:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، ومعنى باخع: مهلك نفسك غمّا وحزنا لأنّهم لم يؤمنوا؛ لذلك قام حياته صلّى الله عليه وسلّم كلّها يدعو بإخلاص ومحبّة وشفقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مصوّراً حاله في دعوته مع الناس
(إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ: كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا؛ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا؛ فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ ؛ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا؛ فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا)). رواه البخاري.
ومعنى الحديث: يشبّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم النّاسَ بأنّهم مثل الفراش، الذي عندما يرى ضوءا أو نارا يتّجه لها. ويقع فيها حتّى تحرقه، وأنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يُشبه الرجل الذي يبعد الفراشَ عن النار؛ حتّى لا تقع في النار، وفعلاً فالرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنّه يمسك بحجز الناس _وهي مواضع الحزام من الخاصرة، وهي أقوى موضع يمكن أن يمسك فيه الإنسان بالإنسان إذا أراد أن يدفعه عن عمل شيء _ ويحاول أن يبعد الناس عن كلّ ما يضرّهم في الدنيا والآخرة، لكن الكثير من النّاس يتدافعون إلى الشّرّ. إلاّ من رحم الله. والصّفة الثانية لهذا النبيّ الكريم. صلّى الله عليه وسلّم.{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. أي يصعب عليه أن تكونوا في مشقّة أو في حرج، ومَن يصعب عليه أن تكونوا في مشقّة. سيكون{حَرِيصٌ عَلَيْكُم}. أي سيحميكم، وبماذا سيحميكم؟ بالرّأفة والرّحمة، لهذا قال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. لقد بلغ حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أُمَّته حدًّا لا يتخيَّله أحد من البشر؛ فمن صور حرصه عليه الصّلاة والسّلام. أنّه منذ اللّحظات الأُولى للدّعوة الإسلامية. كما جاء في سيرة ابن هشام. وهو يأمر القلَّة المستضعفة من المؤمنين في مكة. بالهجرة للحبشة. فِرارًا بدينهم، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
( لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِي أَرْضُ صِدْقٍ؛ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ)). وكثيرًا ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُعرِض عن عمل من الأعمال. وهو مُقرَّب إلى قلبه، ومحبَّب إلى نفسه. لا لشيء إلاَّ لخوفه أن يُفْرَض على أُمَّته، فيعنتهم ويشقّ عليهم؛ لذا قالت السيّدة عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين
(إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ)). وامتدَّ حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورفقه بالمؤمنين في شئون دينهم المختلفة، وخاصَّة في جانب العبادات، خشية مبالغتهم في الأمر، ظنًّا منهم أنّ هذا الأمر سيكون سببًا قويًّا في قربهم لله تعالى؛ فيفتقدون بذلك التّوازن في حياتهم، فعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم. يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. فلمّا أخبروا. كأنّهم تقالّوها. فقالوا وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنّي لأخشاكم لله. وأتقاكم له. لكنّي أصوم وأفطر. وأصلّي وأرقد. وأتزوّج النساء. فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)). متّفق عليه. ومن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُمَّته. وشدّة انشغاله واهتمامه بها. ما نراه مسطورا في كتب السنّة. من كثرة دعائه لها. أخرج الإمام البزّار رحمه الله. عن السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت
(لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ النفْس، قُلْتُ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ لِي".قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ". فضحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الضَّحِكِ، فَقَالَ: " أَيُسُرُّكُ دُعَائِي؟". فَقَالَتْ: "وَمَا لِي لا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ"، فَقَالَ: " وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدَعْوَتِي لأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلاةٍ)). والأحاديث في شدّة اهتمامه وحرصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمّته. واعتنائه بأمورهم. وشفقته عليهم. ورحمته بهم. كثيرة مشهورة.
بشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا من العناية ركناً غير منهدملمّا دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنّا أكرم الأمم
أيّها المسلمون. هذا هو نبيّ الرحمة والرأفة. الحريص على أمّته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.اللهمّ جَازِهِ عَنّا خير ما جَزَيْتَ نَبِيّاً عن أُمَّتِه.ما أعظمك وما أرحمك بأُمَّتِك يا سيّدي يا رسول الله.ولقد وصفك ربّك ومولاك فقال في حقّك
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)). وقال
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)). فيحقّ على المؤمن إذا سمع بهذا وأمثاله. أن تعظم محبّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلبه. وأن يعظّمه ويوقّره باتّباع سنّته. ولزوم طريقته. ولا يسعى إلاّ فيما يرضيه. وأن يسعى في تفريحه وإدخال السرور عليه. بتفريح أمّته. وإدخال السرور عليهم. والإعتناء بأمورهم الدنيوية والأخروية. ومن هذا. عظم ثواب من دعا لأمّته. حتّى كان لمن قال كلّ يوم على ما روي عن الخضر عليه السلام
( اللهمّ اغفر لأمّة سيّدنا محمّد. اللهمّ ارحم أمّة سيّدنا محمّد. اللهمّ استر أمّة سيّدنا محمّد. اللهمّ اجبر أمّة سيّدنا محمّد. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)). أنّه يكتب من الأبدال. لما فيه من تفريحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بالإعتناء بأمّته. فما أحوجنا أيّها المسلمون. في هذا الزّمن. والأمّة في وهن. أن نحذو حذوه، ونسير على نهجه، ونحرص على أمّته. كحرصه صلى الله عليه و سلم عليها، ندعوها للهدى. ونرفق بها ونرحم، نحبّب الله إلى عباده. ونحبّب العباد إلى الله. عسى أن نكون بذلك ممّن يغبطهم الأنبياء والشهداء. روي عن سيّدنا أنس رضي الله عنه. أنّ النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: ((ألا أخبركم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء. يغبطهم الأنبياء والشهداء. بمنازلهم من الله تعالى. على منابر من نور. يعرفون عليها. قالوا: من هم؟ قال: الذين يحبّبون عباد الله إلى الله تعالى. و يحبّبون الله عزّ وجلّ إلى عباده. و يمشون في الأرض نصحاء. فقلنا هؤلاء حبّبوا الله إلى عبـاده. فكيف يحبّبون عباد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهم بما يحبّ الله. وينهونهم عمّا حرّم الله. فإذا أطاعوهم. أحبّهم الله)). رواه البيهقي في شعب الإيمان. اللهمّ وفّقنا يا مولانا لمعرفة قدر وشرف هذا النبيّ الكريم. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويسّر علينا اتّباعه. ونهج سبيله. وانفعنا اللهمّ بمحبّته. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللهمّ ألّف بين قلوبنا. وأصلح ذات بيننا. وتوفّنا وأنت راض عنّا. يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.اه.