جود وكرم المصطفى صلى الله عليه وسلمالحمد لله الكريم المنّان، الرحيم الرحمن، ذو الجود والعطاء، حضّ عباده على التّخلّق بأخلاق الكرم والسّخاء، ووعدهم عليه بانتشار الأمن والمحبّة والرّخاء. وأشهد أن لا إله إلاّ الله. وحده لا شريك له. جعل الكرم من صفات الأنبياء والرّسل والأتقياء. وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه وخليله. أكرم الكرماء، وأسخى الأسخياء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد. وعلى آله وأصحابه. أهل الجود والعطاء.
أمّا بعد: فياأيّها المسلمون: لقد اجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يجتمع لإنسان قطّ، فكلّ ما تفرّق في البشر من صفات عالية. وأخلاق سامية، متضمّن في أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم. ولقد نال صلّى الله عليه وسلّم أعظم المنازل وأشرفها في صفوف أهل الكرم والجود؛ فلم يكن يردّ سائلاً أو محتاجاً، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال
(ما سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ قطّ. فقال: لا)). رواه البخاري،
ما قال لا قطّ إلاّ في تشهّده * لولا التّشهّد كانت لاؤه نعم
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ الناس، وأجْوَد الناس، وأشْجَعَ الناس)). رواه البخاري ومسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يُعطي بسخاءٍ قلّ أن يُوجد مثله، وقد عبّر أحد الأعراب عن ذلك. حينما ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فرأى قطيعاً من الأغنام ملأت وادياً بأكمله، فطمع في كرم النبيّ صلى الله عليه وسلم. فسأله أن يعطيه كلّ ما في الوادي، فأعطاه إيّاه، فعاد الرجل مستبشراً إلى قومه، وقال: "يا قوم! أسلموا؛ فوالله إنّ محمّدا ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر". رواه مسلم. بل إنّه وصل الحدّ بكثير من الكفّار أن يسلموا طمعاً في كرمه صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال
(إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلاّ الدنيا فما يُمسي حتّى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها)). بل وصل به الكرم صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطي ثوبه الذي عليه، فقد روي أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِبُرْدة. فقالت: يا رسول الله: أكْسوك هذه. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فَلَبسَها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحْسَنَ هذه، فاكْسُنيها. فقال
(نعم)). فلمّا قام النبي صلى الله عليه وسلم. لامه أصحابه. فقالوا: ما أحسنْتَ حين رأيتَ النبي صلى الله عليه وسلم أخَذها مُحتاجاً إليها، ثم ّسألتَهُ إيّاها، وقد عرفتَ أنّه لا يُسْأَل شيئاً فيمنعه. فقال: رجوتُ بَرَكَتَهَا حين لَبِسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لَعَلَّي أُكَفَّن فيها. رواه البخاريُّ.
تَعوّد بَسْط الكفِّ حتَّى لو انَّهُ * ثناها لِقَبْضٍ لم تجِبْه أَناملُهْتراه إذا ما جئتَه مُتهلِّلاً * كأنَّك تُعطيه الذي أنت سَائلُهْولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ * لجَادَ بها فليتّقِ اللهَ سَائلُهْهُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
وكيف لا يكون كذلك صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه بالأمر في الإنفاق والترغيب فيه آيات وآيات. مثل قول الله تعالى:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}. وقوله تعالى:{وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}. وقوله تعالى:{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن جود الرسول صلى الله عليه وسلم وكرمه، فقال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. حين يلقاه جبريل بالوحي. فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)). لقد كان جوده صلى الله عليه وسلم عن كرم في طبعه. وسماحة في نفسه. مع ثقة في سعة خزائن ربّه. وتبيّن لنا أمّ المؤمنين السيّدة خديجة رضي الله عنها تحلّيه صلى الله عليه وسلم بهذه الخصلة قبل بعثته. لمّا عاد صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرتجف فؤاده عند أوّل لقاء له بجبريل الأمين عليه السلام. قالت له السيدة خديجة رضي الله عنها
(كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)). رواه البخاري. وكلّها صفات تحمل في طيّاتها معاني الكرم والجود. وقد ألقت سحائب جود النبي صلى الله عليه وسلم بظلالها على كلّ من حوله، حتى شملت أعداءه، فحينما مات رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، جاء ولده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أعطني قميصك أكفّنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له"، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، رواه البخاري. وكان جوده صلى الله عليه وسلم كلّه لله، وفي ابتغاء مرضاته، فإنّه كان يبذل المال إمّا لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألّف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه، وكان يُؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاءً يعجز عنه الملوكُ. مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه صلى الله عليه وسلم عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نار، وربَّما رَبط على بطنه الحجر من الجوع، وكان قد أتاه مرّةً سبي فشكتْ إليه ابنته السيّدة فاطمةُ الزهراء رضي الله عنها ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادماً يكفيها مُؤْنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال
(لا أُعطيك وأَدَع أهل الصُّفًّة تَطْوَى بطونُهم من الجوع)). ورحم الله الإمام البوصيري إذ يقول في وصف يد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتمنّى تقبيلها:
أَوْ بِتَقْبِيلِ رَاحَةٍ كَانَ للهِ وَبِاللهِ أَخْذُهَا وَالْعَطَاءُ
تَتَّقِي بَأْسَهَا الْمُلُوكُ وَتَحْظَى بِالْغِنَا مِنْ نَوَالِهَا الْفُقَرَاءُ
لاَ تَسَلْ سَيْلَ جُودِهَا إِنَّمَا يَكْـ فِيكَ مِنْ وَكْفِ سُحْبِهَا الأَنْدَاءُ
وكما يظهر جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم على أمّته جليّا.في تضرّعه إلى الله تعالى في الحرص على نجاتهم من نار جهنّم
.فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام
(ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من النّاس فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رحيم)).وقال عيسى عليه السلام
(إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)). فرفع يديه وقال
( اللهمّ أمّتي أمّتيوهو يبكي. فقال الله عزّ وجلّ يا جبريل: إذهب إلى محمّد. وربّك أعلم. فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبرهرسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. وهو أعلم. فقال الله عزّ وجلّ يا جبريل:إذهب إلى محمّد فقل له: إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوؤك)). رواه مسلم. هذا في دنياه صلى الله عليه وسلم. أمّا في أخراه فكلّ الرسل يوم القيامة تقول: نفسي نفسي. لا أملك إلاّ نفسي. وهو صلى الله عليه وسلم يقول: أمّتي أمّتي. وصدق فيه قول الله تعالى
( لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)).
يا من حوى خصال الخير أجمعها يا من سما في سماء المجد والكرم
من ذا لأحمد يلحق في فضائله ونوره قد جلا حوالك الظلم
نال المقام الذي ما ناله أحد محمد صاحب الرايات والعلم
فاطلب به ما تشا عند الإله تفز من كلّ خير فسأله غير محتشم
وناده إن دجا ليل الخطوب وقل يسمع لك القول حالا غير متّهم
يا سيّدي يا رسول الله خذ بيدي لغير بابك في المقصودي لم أرم
قصدي الغنا وصلاح الحال يا سيّدي قصدي الشفا لما في القلب من سقم
قصدي شفاعتك العما تشملني ووالديّ وصحابي مع ذوي رحم
قصدي الزيارة للقبر الشريف وأن أكون من جملة الزوّار للحرم
حاشاك تبخل عنّي بالمراد ولي حماك من أمنع الحصون والعصم
فأنت أكرم من وافاه ذو طلب يرجو النجاح ويبغي الأمن من نقم
صلّى عليه إله العرش ما طلعت شمس وبدر بدا في غيهب الظلم
وآله الغرّ والأصحاب قاطبة مارددّت ساجعات الأيك بالنّعم
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين.اه.