هذا الكتاب أثار ضجة، لكنها فى كل الأحوال أقل مما يستحق، وأثار معركة لكنها أيضاً أقل مما يستحق، الكتاب هو «إبراهيم وأبناء عهده مع الله»، وهو كتاب مترجم ألفه المستشرق الألمانى رينهارد لاوت، الكتاب ينصف الإسلام، لكنه ليس مثل أى كتاب ينصف الإسلام!
عشرات الكتب كتبها مستشرقون رأت فى الإسلام أوجها إيجابية ورأت فى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وجها نبيلا، فالبعض وصفه بأنه عبقرى، والآخرون وصفوه بأنه قائد موهوب، لكن أحدا من هؤلاء لم يصف الرسول بأنه رسول.. لم يؤمن مستشرق واحد قبل رينهارد لاوت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول مرسل من السماء، وبأن ما يقوله هو كلام الله. أهمية هذا الكتاب جعلته محورا لمعركة بين وزير الأوقاف من جهة، ومجموعة من أساتذة الأزهر من جهة أخرى، والحقيقة أن المعركة كانت بين طريقتين فى التفكير.. وزير الأوقاف الذى حصل على الدكتوراه من ألمانيا واحتك بمدارس الاستشراق المختلفة وحاور عشرات من المستشرقين يرى فى الكتاب سابقة لم تحدث من قبل، فهذه هى المرة الأولى التى يعترف فيها مستشرق بأن الإسلام دين سماوى وبأن القرآن كتاب الله، أساتذة الأزهر من جهتهم لم يعجبهم الكتاب وتعامل بعضهم مع المؤلف وكأنه طالب أزهرى يجب اختباره فى أصول الفقه، وقواعد الشريعة! باختصار كان علماء وأساتذة الأزهر ينتظرون من المؤلف تصورا إسلاميا عن الإسلام مع أن هذا ضد طبائع الأمور ومع أن إنصاف مستشرق ما للإسلام لايعنى على الإطلاق أنه مسلم أو أنه معتنق للإسلام، بل إن الأمر ربما يكون على العكس أو على العكس تماما، فالمؤلف يقول فى أول صفحات كتابه إنه يكتبه بصفته مسيحيا معمدا كاثوليكيا، ويضيف «بقول أشد صرامة بصفتى كاثوليكيا»! هكذا إذن يحدد المؤلف موقفه، ثم يمضى بعد ذلك قائلا: إن كتابه عن إبراهيم وعن ولديه إسحق، وإسماعيل أو قل إنه عن إبراهيم وأحفاده العرب والإسرائيليين، اليهود والمسلمين وبينهم المسيحيون وهو يبدأ صفحات الكتاب الضخم بفصل يعتبره بمثابة مقدمة، والفصل يحمل عنوان «من كان محمد بحسب القرآن؟» فى بقية فصول الكتاب الذى يصل عدد صفحاته لستمائة صفحة يرصد المؤلف قصة إبراهيم أبى الأنبياء من خلال أسفار التوراة أو العهد القديم، وهو يقرر منذ البداية أنه سيولى الجزء الأكبر من اهتمامه برصد أخبار سلالة إسماعيل من العرب أو الإسماعيليين كما يسميهم، ومن هؤلاء الإسماعيليين بالطبع محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يقول إنه قرر أن يفعل هذا لأن كثيرين جدا سبق لهم أن درسوا تاريخ أبناء النبى إسحق الذين عرفوا فيما بعد بالإسرائيليين!
يبدأ المؤلف الفصل الذى اسماه «من كان محمد بحسب القرآن» بصدمة للقارئ وبالتحديد للقارئ الغربى الذى كتب كتابه من أجله إذ يبدأ قائلا بالحرف: «أحب أن أؤكد لقراء كتابى منذ البداية أننى أنظر إلى القرآن على أنه كتاب وحى أتى حقيقة من الله على محمد، وأننى أعتبر محمدا نفسه آخر الأنبياء فى السلالة الإسماعيلية»، ويضيف محددا نوعية كتابه: «إن كتابى هذا قد كتب أولا لقارئ صاحب موقف علمى - نقدى يجب على أن أقوده بالحجج القاطعة خطوة خطوة نحو قناعة معينة وكبيرة.. وعلى هذا الأساس فقط استطعت أن أبرز ملامح محمد كنبى حقيقى كلما تقدمت فى عرض فصول هذا الكتاب!»
ويضيف المؤلف فى اعتراف كامل ومدهش من شخص غير مسلم إطلاقا قائلا: «إننى أنطلق بحكم أبحاثى وتفكيرى من أن الناطق بالقرآن هو حقيقة نبى موحى له من الله. وأن شخصا واحدا نطق بالقرآن عن طريق الوحى وسهر على كتابته بنفسه أو أوعز إلى المخلصين له بأن يقوموا بكتابته» ويضع المؤلف ملاحظة استفزت بعض أساتذة الأزهر حين يقول: «أثناء تثبيت النص فى عهد عثمان بن عفان قد تكون تسربت بعض التغييرات والإضافات الطفيفة للنص، والمقصود بتثبيت النص هنا هو جمع المصحف الشريف». يمضى المؤلف فى سرد قصة الرسول «ص» من وجهة نظره ومن خلال هذا يرد على عدد من الآراء والأكاذيب التى سيطرت على عدد كبير من المستشرقين، حيث يقول: «عاش هذا النبى نحو سنة 600 بعد الميلاد، ولقد بشر بالوحى الذى أتاه من الله وأقام على أساسه جماعة من المؤمنين حققت قرب نهاية حياته انتشار إيمانها الجديد بالتبشير والمفاوضات والحرب، فى الجزيرة العربية ولاسيما فى شمالها، ويضيف: لا يوجد أى سبب كاف يحمل على إنكار أن هذا الشخص هو محمد ولا يعنى هذا أن نصدق كل مارواه الآخرون عنه بعد وفاته، ولكن بشكل أساسى سنأخذ ما جاء فى القرآن عنه كشىء مسلم به.
فى هذا الجزء يرد رينهارد لاوت على الكثير من المستشرقين الذين قالوا إن محمدا لم يكن الاسم الحقيقى للرسول «ص»، وأن هذا الاسم أطلق عليه فيما بعد. بعدها ينتقل لاوت ليرد على شائعة أخرى أطلقها عدد كبير من رجال الدين المسيحى فى الغرب فى عصور الكنيسة المظلمة، هذه الشائعة أو الفرية كانت تقول - وحاشا لله - إن الرسول كان فى بداية حياته حبرا يهوديا !لكن رينهارد لاوت يرد ببساطة قائلا: «فيما يخص دينه فمن المؤكد أنه لم يكن يهوديا» وفى سورة من أوائل سور القرآن وهى سورة البروج يشير القرآن باشمئزاز إلى المجزرة التى ارتكبها اليهود بحق المسيحيين فى نجران وهو لم يكن مسيحيا أيضاً برغم أنه قد تأثر بالمسيحية. يقول المؤلف أيضاً: إن الرسول كرس حياته لمحاربة تعدد الآلهة، وقاتل المشركين الذين يشركون مع قدرة الله عديمة المثال شيئا آخر، ويقول المؤلف: إن الرسول قد تعامل مع المشركين على أنهم إسماعيليون منحطون.
لكن النقطة الأهم ليست اعتراف المستشرق لاوت بنبوة النبى محمد «ص»، ولكن فى رصده للعلاقة بين أبناء عهد إبراهيم أو بين العرب واليهود ويشرح المؤلف ما يقصده بعهد إبراهيم قائلا: إنه العهد الذى أعطاه إبراهيم لله بأن يختن كل ولد من ذريته كدليل إخلاص وطاعة لله، وهو يقول إن الرسول «ص» كواحد من نسل إسماعيل عليه السلام اعتبر نفسه جزءا من عهد الختان مع الله. وبما أن إسماعيل كان أخا لإسحاق أبى اليهود فقد كان من الطبيعى بالنسبة إلى محمد كونه إسماعيليا أن يعتبر أن الوحى الموثوق الذى أتى للإسرائيليين قد أتى أيضاً للإسماعيليين، ويشرح المؤلف أن هذا هو السبب الذى دفع القرآن لأن يتحدث عن الأنبياء «هود وصالح وشعيب» وكلهم من العرب أو من سلالة إسماعيل فى حين أن الرسول «ص» كان يعى تماما أن الإسرائيليين لم يعرفوا الأنبياء من سلالة إسماعيل ولم يعترفوا بهم. يرى المؤلف أيضاً أن هناك فرقا كبيرا بين إيمان أبناء إسماعيل وإيمان أبناء إسحق وأن هذا الفارق أدركه الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الفارق هو أن تغيرا حدث داخل الإيمان الإسرائيلى. هذا التغير أدى إلى حدوث نوع من التضييق الروحى على اليهودية أيضاً، ويشرح المؤلف أن الرسول «ص» اعتبر أن ما يجمع الإسماعيليين والإسرائيليين لم يعد قائما منذ هذا التغيير، حيث ضيق الإسرائيليون الخناق على إيمان إبراهيم بشكل غير مشروع وخلطوا فيه مالا يخصه، وهكذا أصبحوا مشركين. واقترن بذلك إعراضهم عن الأنبياء والإيمان. ويصل الأمر لذروته برفض بنى إسرائيل الاعتراف بنبوة الأنبياء زكريا ويحيى وعيسى، بل إنهم قتلوا اثنين من هؤلاء الأنبياء هما يحيى وعيسى، لذلك سنجد أن الإسلام يعتبر هؤلاء الأنبياء إسماعيليين حتى لو كانوا من سلالة إسحق عليه السلام.
ويتعرض المؤلف فى موضع آخر من الكتاب لمسألة فى غاية الأهمية وهى سور القرآن الكريم.. ورغم إيمانه بأن القرآن الكريم هو كلام الله الذى أوحى به لنبيه محمد إلا أنه يذكر رأيا أثار اعتراض العديد من أساتذة الأزهر أثناء مناقشتهم للكتاب مع وزير الأوقاف حيث يقولك «انطلق من مقدمة فحواها أن لسور القرآن ناطقا وحيدا بها فيما عدا سورة الفاتحة التى يشير القرآن نفسه إلى أنها صلاة مقتبسة؟» ويضيف: «يمكن أن تكون هذه السور قد عرفت تغييرات أو تعديلات طفيفة وهذا ما تشهد عليه الآية الخامسة عشرة من سورة يونس «ائت بقرآن مثل هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى أن أتبع إلا ما يوحى إلى أنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم»، ورغم أن ما يقوله المؤلف جدير بأن يثير غضب الكثيرين خاصة أن بعض هذه الآراء التى تبناها مفسرون مسلمون مثل محمد عابد الجابرى وحسين أحمد أمين قد أثارت ضجة كبيرة فى حينها وصلت إلى حد الاتهام بالتكفير، إلا أن رينهارد لاوت فى الفقرة التالية مباشرة يقول كلاما من شأنه أن يمتص غضب أى غاضب حيث يقول: «بخصوص القرآن يجب أن نقول إن محتوى ما أوحى لا يمكن مقارنته إلا بأكبر النبوءات فى التاريخ، فتصور القرآن عن الله يعلو على تصور معظم الأنبياء الآخرين ولا يجاوزها سوى تصور إبراهيم ويسوع الذى يشهد الرسول «ص» نفسه بأنه أحد أكبر النبوءات فى التاريخ.
فى ختام الفصل الذى خصصه للحديث عن محمد «ص» يفجر رينهارد لاوت مفاجأة كبيرة حيث يشكك فى كون الرسول «ص» إسماعيليا من ناحية النسب. بمعنى أنه قد يكون من العرب العاربة وليس من العرب المستعربة، وهو يعبر عن هذا قائلا: «نقول فى الختام إن محمدا كما يظهر فى القرآن لم يكن إسماعيليا على ما يبدو من ناحية النسب. إنه من قبيلة قريش، وكان يعيش فى مكة والمدينة، أما فيما أوحى إليه من الله فيظهر محمد إسماعيليا متشددا تحركه الوصايا الثلاث الأولى نفسها، كما كان الأمر لدى إبراهيم وهاجر وإسماعيل، أما الجديد الذى جاء به فهو إدخال الشريعة والكتابة إلى الديانة الإسماعيلية على نسق موسى. وبهذا رفع الإسماعيليين إلى مستوى واحد مع الإسرائيليين! لكن ما يميز موقفه الأساسى أيضاً هو تجنبه للانفرادات الخطيرة عند الإسرائيليين، وبالأحرى اليهود فى الدفاع عن الشريعة والكتاب والمناداة بها، فكانت النتيجة أنه قبل بالتوراة والإنجيل كتابين مقدسين، لكنه أبقى التعاليم الفريسية والربانية بعيدة عنها.